إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 29 أبريل 2017

البدايات المحرقة ،،،، نهايات مشرقة


      عشت طفولة بائسة ، أقل ما يقال عنها بأنها كئيبة ، ومظلمة ، وسط أسرة فقيرة لا تجد ما تسد به جوعها ، لم أعرف طعم الحلوى طوال طفولتى ، أذكر أننا كنا ننتظر الأعياد ، ومناسبات الأفراح لجيراننا ، وأهل الحارة بفارغ الصبر ، لأننا نتذوق من خلالها اللحوم ، والحلوى ، والفواكه التى حرمنا منها طوال العام ، كانت أسرتى مفككة ولا يكاد أى فرد فيها يشعر بالآخر ، فلكل منا عالمه الخاص المغلق عليه هو فقط .
      كان والدى إنساناً سلبياً لدية عشرة أطفال مشردين فى الشوارع لا يعلم عنهم شيئاً ، يعيش فى حالة من حالات اللامبالاة ، ربما بسبب تناوله المخدرات ، أو بسبب أن مرتبه لا يكفى لمنتصف الشهر ، أحياناً كثيرة كنت أشفق عليه وأنا أرى نبتة الأمل تخبو فى نفسه يوماً بعد الأخر ، كان كثير الصمت والشرود كأنما شعر بأن خيوط حياته قد أفلتت من بين يديه فآثر أن لا يركض خلفها وأذعن بكل إنهزامية وإستسلام .
      وعلى الرغم من قسوة الظروف فقد كنت من المتفوقات فى دراستى ، حتى جاء اليوم الذى حصلت فيه على شهادتى المتوسطة " الإعدادية " ، وجاء مع حصولى على الشهادة رجل يبلغ الستين من عمره مصاب بالضغط ، والسكر ، ومدمن للخمر بـل وفوق  ذلك تاجر مخدرات ، جاء ليخطبنى من أبى الذى وافق على الفور على طلبه ، فقد كان يملك أموالا كثيرة من تجارته للمخدرات وهى نقطة ضعف أبى وأمى ، أتذكر حينها رفضى الشديد له وصراخى بأعلى صوتى بعدم رغبتى فـى الزواج الآن لأننى اريد أن أكمل دراستى ، ولكن دون فائدة
      وتم الزفاف لأجد نفسى وقـد خرجت مـن سجن لأدخل سجن أخـر لا تقل فيه قسوة السجان شيئاً عن سابقيه ، فقد كان يعاملنى كخادمة ، ضرب بجميع الأشياء التى يمكن أن يضرب بها إنسان ، وأيضاً الأشياء التى لا يمكن أن يضرب بها ، إستمرالوضع خمسة سنوات ذقت فيها جميع   صنوف العذاب والذل والمهانة ، ولـم  يهـون على سوى أن الله أكرمنى  خلال هذه الفترة بولدين وبنت عاهدت نفسى أن أجنبهم جميع ما مررت به فى حياتى ، ولكن كيف لى ذلك وأبوهم إنسان متجرد مـن شـرف الأبوة ، فبمجرد أن يشرب الخمر يقـوم بضـربى وإيـاهـم علـى أتـفه الأسباب .
         ولكن الله أراد لهذه المأساة أن تنتهى ، ففى ذات يوم سمعت صراخ الجيران من حولنا وهم ينادون يا أم فلان ، خرجت مسرعة لأجد زوجى السكير إشتبك مع أحد زبائنه بالأسلحة البيضاء وقام بطعنه طعنة أودت بحياة الزبون ، وكان زوجى يقف فوقه وجميع ملابسه مغطاة بالدماء ، وفجأة داهمت الشرطة المكان لأجد زوجـى الفرعون وهو يقف بين يديهم يرتجف كالفأر المذعور ، كانت اطـرافه بالكاد تحمله ، وعيناه زائغتين ينظر بهما للناس من حوله بذهول .
      كانت وقتها مشاعرى مضطربه لا ادرى أهى لحظات سعادة فأفرح ، أم لحظات حزن فأحزن ، ولكن كنت اردد الحمد لله ,, الحمد لله ,, الحمد لله بدون إنقطاع ، وبعد أسبوعين من هذه الواقعة وقبل محاكمته كان قد توفى داخل السجن بسبب إرتفاع ضغطه ، وإصابته بنزيف حاد فى المخ .
      وهنا جلست أفكر ملياً ، فأنا الآن أمام مفترق الطرق ، أنا ارملة فى العشرين من عمرى لدى ثلاثة أطفال ، وليس لدى مورد رزق ، ماذا أفعل ؟ كان أمامى طريقين لا ثالث لهما الأول طريق الكفاح والصبر والأمل البعيد وهو طريق الراغبين فى العيش الحلال ، أما الثانى طريق الكسب السريع حين أبيع أنوثتى للراغبين فى إمراة جميلة ووحيدة ، وبتوفيق من الله سبحانه وتعالـى إخترت الطريق الأول ، وأكثر ما أسعدنى هو حصولى على حريتى .
        بدأت أبحـث عـن عـمل شريف أعيش منه أنا وأولادى بعد أن تركـت هـذه المدينة بأكملها وإنتقلت للعيش فى غرفـة صغيرة فى مدينة أخرى ، وقـد سخر الله لى بعض الطيبين الذين ساعـدونـى كثيراً ، فقد كانوا يتصدقون علينا ببعض الطعام ، والملابس القديمة جزاهم الله خيراً ، حتى وجدت عملاً فى إحدى المدارس الثانوية القريبة من بيتى ، وبعد مرور عام فى وظيفتى إكتسبت خلاله حب المديرة والمعلمات سألت نفسى  : بما إننى فى مدرسة ثانوية لما لا أكمل تعليمى ؟ .
       وفعلا تقدمت بأوراقـى والتحقت بالـمدرسة الثانوية ، وأكـرمنى الله بعـد مرور ثلاث سنوات عانيت خلالها الكثير والكثير أن أحصل على شهادة  الثانوية بنسبة نجاح سبع وتسعين  فى المائة ، كان هذا النجاح الساحق مفاجأة لكل من حولى ، بعدها إنتقلت من عملى كعاملة فى  المدرسة الى كاتبة فى إحدى الدوائر الحكومية براتب جيد ، بالإضافة الى تقديم أوراقى إنتساب الى الجامعة قسم التربية الإسلامية .
         ثـم إستأجرت شقة صغيرة مكونة مـن غرفتين وصالة ومطبـخ مستقل وحمام ، ولأول مرة يدخل التليفزيون فى بيتى ، وحاولت أن أعوض أطفالى عن حاجتهم للعائلة الكبيرة ، وعن سنوات العذاب التى عاشوها ، وكان ما يثلج صدرى ، ويمنحنى الصبر والأمل هو نظرات الحب التى كنت آراها فى عيون أطفالى ، وتلك القبلات الرائعة التى كانوا يمطروننى بها بمناسبة وبدون مناسبة .
         بعد مرور أربعة سنوات فـى الجامعة إستطعت الحصول على درجة البكالوريوس بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى ، ثم إستقلت من عملى ككاتبة ، وإنتقلت للعمل كمعلمة فى مدرسة ثانوى ، وحينما علم إبنى الكبير بذلك وكان عمره حينها ثلاثة عشرة عاماً ، إحتضننى بقوة وهــو لا يكاد يغالب دموعه قائلاً : أمــى أنا فخــور بك ، أنت أعظم أم فى العالم ، وإحتضنتهم جميعاً ودخلنا فى وصلة من البكاء استمرت طويلاً ، ولأول مرة فى حياتى أقبض راتباً ضخماً ، تصدقت على الفور بنصفه كشكر لله على نعمه المتوالية على ، وبما يسر لى من أسباب الرزق .
       بعدها تقدمت بأوراقى للحصول على درجة الماجستير ، ثم الدكتوراة ، ولا أخفيكم سراً فقد وجدت صعوبات متنوعة فى الدكتوراة ، فقد بدأ أولادى يكبروا ويتدرجون فى فصولهم ، فكان الإرهاق يقتلنى أحياناً وأنا اشتت نفسى بين عملى كمعلمة ، وبين مذاكرتى للدكتوراة ، وأبحاثى ، ومذاكرة أولادى ، وعمل المنزل ، وكذلك كنت قد أشتريت قطعة أرض كبيرة لأبنى عليها بيتاً مكوناً من طابقين لكل طابق خمسة غرف وحديقة ومسبح ، وكنت أشرف على التأثيث بنفسى فقد إشتريت أثاثاً فخماً ورائعاً ، والحمد لله إنتهى كل ذلك بعد فترة قصيرة إستطعت الحصول على درجة الدكتوراة بتقدير ممتاز وتم تعينى كأستاذه فى الجامعة ، وكان عمرى حينها سبعة وثلاثون عاماً وما زلت بالجامعة حتى الآن .
        وقد إبتسمت لى الحياة بعد عبوس طويل ، فلله الحمد أصبحت ذو مركز إجتماعى مرموق الآن ، وأعيش فى بيت فخم ، وعندى الخدم والسائقين ، وأبنائى جميعهم قد تخرج من الجامعة ، فإبنى الأول يعمل الآن طبيباً ، والثانى مهندساً معمارياً ، والصغرى طبيبة أطفال وقد تزوجوا جميعاً ، واصر إبنى الأكبر أن يعيش هو وزوجته معى فملؤوا على البيت بالحياة وضحكات الأحفاد .

        و أنا الآن فى الخامسة والخمسين من عمرى مازالت أحتفظ بمسحة من جمالى برغم جميع الظروف التى مررت بها . جاءت هذه القصة على لسان الدكتورة سلوى العضيدان وهى تقول أنها حدثت مع إحدى معارفها ، وأنا هنا نقلتها كما هى ، ولكن إضطررت للإختصار فـى بعض الفقرات مع الحفاظ على المعنى العام كاملاً طوال الرحلة .
أن تترك أثراً ليس معناه ان تسير وفق ما هو مخطط لك ولكن معناه ان تحفر طريقك الخاص وان لا تستسلم مهما كلف الأمر ....
ل
لا تكن عاديا أو محدوداً مهما حدث . 
من كتاب الذات المبدعة صــ55

هناك تعليق واحد: