عشت طفولة بائسة ، أقل ما يقال عنها بأنها
كئيبة ، ومظلمة ، وسط أسرة فقيرة لا تجد ما تسد به جوعها ، لم أعرف طعم الحلوى
طوال طفولتى ، أذكر أننا كنا ننتظر الأعياد ، ومناسبات الأفراح لجيراننا ، وأهل
الحارة بفارغ الصبر ، لأننا نتذوق من خلالها اللحوم ، والحلوى ، والفواكه التى
حرمنا منها طوال العام ، كانت أسرتى مفككة ولا يكاد أى فرد فيها يشعر بالآخر ،
فلكل منا عالمه الخاص المغلق عليه هو فقط .
كان والدى إنساناً سلبياً لدية عشرة أطفال
مشردين فى الشوارع لا يعلم عنهم شيئاً ، يعيش فى حالة من حالات اللامبالاة ، ربما
بسبب تناوله المخدرات ، أو بسبب أن مرتبه لا يكفى لمنتصف الشهر ، أحياناً كثيرة
كنت أشفق عليه وأنا أرى نبتة الأمل تخبو فى نفسه يوماً بعد الأخر ، كان كثير الصمت
والشرود كأنما شعر بأن خيوط حياته قد أفلتت من بين يديه فآثر أن لا يركض خلفها
وأذعن بكل إنهزامية وإستسلام .
وعلى
الرغم من قسوة الظروف فقد كنت من المتفوقات فى دراستى ، حتى جاء اليوم الذى حصلت
فيه على شهادتى المتوسطة " الإعدادية " ، وجاء مع حصولى على الشهادة رجل
يبلغ الستين من عمره مصاب بالضغط ، والسكر ، ومدمن للخمر بـل وفوق ذلك تاجر مخدرات ، جاء ليخطبنى من أبى الذى وافق
على الفور على طلبه ، فقد كان يملك أموالا كثيرة من تجارته للمخدرات وهى نقطة ضعف
أبى وأمى ، أتذكر حينها رفضى الشديد له وصراخى بأعلى صوتى بعدم رغبتى فـى الزواج
الآن لأننى اريد أن أكمل دراستى ، ولكن دون فائدة
وتم الزفاف لأجد نفسى وقـد خرجت مـن سجن لأدخل
سجن أخـر لا تقل فيه قسوة السجان شيئاً عن سابقيه ، فقد كان يعاملنى كخادمة ، ضرب بجميع
الأشياء التى يمكن أن يضرب بها إنسان ، وأيضاً الأشياء التى لا يمكن أن يضرب بها ،
إستمرالوضع
خمسة سنوات ذقت فيها جميع صنوف العذاب
والذل والمهانة ، ولـم يهـون على سوى أن
الله أكرمنى خلال هذه الفترة بولدين وبنت
عاهدت نفسى أن أجنبهم جميع ما مررت به فى حياتى ، ولكن كيف لى ذلك وأبوهم إنسان
متجرد مـن شـرف الأبوة ، فبمجرد أن يشرب الخمر يقـوم بضـربى وإيـاهـم علـى أتـفه
الأسباب .
ولكن
الله أراد لهذه المأساة أن تنتهى ، ففى ذات يوم سمعت صراخ الجيران من حولنا وهم
ينادون يا أم فلان ، خرجت مسرعة لأجد زوجى السكير إشتبك مع أحد زبائنه بالأسلحة
البيضاء وقام بطعنه طعنة أودت بحياة الزبون ، وكان زوجى يقف فوقه وجميع ملابسه
مغطاة بالدماء ، وفجأة داهمت الشرطة المكان لأجد زوجـى الفرعون وهو يقف بين يديهم
يرتجف كالفأر المذعور ، كانت اطـرافه بالكاد تحمله ، وعيناه زائغتين ينظر بهما
للناس من حوله بذهول .
كانت وقتها مشاعرى مضطربه لا ادرى أهى لحظات
سعادة فأفرح ، أم لحظات حزن فأحزن ، ولكن كنت اردد الحمد لله ,, الحمد لله ,,
الحمد لله بدون إنقطاع ، وبعد أسبوعين من هذه الواقعة وقبل محاكمته كان قد توفى
داخل السجن بسبب إرتفاع ضغطه ، وإصابته بنزيف حاد فى المخ .
وهنا جلست أفكر ملياً ، فأنا الآن أمام
مفترق الطرق ، أنا ارملة فى العشرين من عمرى لدى ثلاثة أطفال ، وليس لدى مورد رزق
، ماذا أفعل ؟ كان أمامى طريقين لا ثالث لهما الأول طريق الكفاح والصبر والأمل
البعيد وهو طريق الراغبين فى العيش الحلال ، أما الثانى طريق الكسب السريع حين
أبيع أنوثتى للراغبين فى إمراة جميلة ووحيدة ، وبتوفيق من الله سبحانه وتعالـى
إخترت الطريق الأول ، وأكثر ما أسعدنى هو حصولى على حريتى .
بدأت أبحـث عـن عـمل شريف أعيش منه
أنا وأولادى بعد أن تركـت هـذه المدينة بأكملها وإنتقلت للعيش فى غرفـة صغيرة فى
مدينة أخرى ، وقـد سخر الله لى بعض الطيبين الذين ساعـدونـى كثيراً ، فقد
كانوا يتصدقون علينا ببعض الطعام ، والملابس القديمة جزاهم الله خيراً ، حتى وجدت
عملاً فى إحدى المدارس الثانوية القريبة من بيتى ، وبعد مرور عام فى وظيفتى إكتسبت
خلاله حب المديرة والمعلمات سألت نفسى : بما
إننى فى مدرسة ثانوية لما لا أكمل تعليمى ؟ .
وفعلا تقدمت بأوراقـى والتحقت بالـمدرسة الثانوية
، وأكـرمنى الله بعـد مرور ثلاث سنوات عانيت خلالها الكثير والكثير أن أحصل على
شهادة الثانوية بنسبة نجاح سبع وتسعين فى المائة ، كان هذا النجاح الساحق مفاجأة لكل
من حولى ، بعدها إنتقلت من عملى كعاملة فى المدرسة الى كاتبة فى إحدى الدوائر الحكومية براتب
جيد ، بالإضافة الى تقديم أوراقى إنتساب الى الجامعة قسم التربية الإسلامية .
ثـم
إستأجرت شقة صغيرة مكونة مـن غرفتين وصالة ومطبـخ مستقل وحمام ، ولأول مرة يدخل
التليفزيون فى بيتى ، وحاولت أن أعوض أطفالى عن حاجتهم للعائلة الكبيرة ، وعن
سنوات العذاب التى عاشوها ، وكان ما يثلج صدرى ، ويمنحنى الصبر والأمل هو نظرات
الحب التى كنت آراها فى عيون أطفالى ، وتلك القبلات الرائعة التى كانوا يمطروننى
بها بمناسبة وبدون مناسبة .
بعد
مرور أربعة سنوات فـى الجامعة إستطعت الحصول على درجة البكالوريوس بتقدير ممتاز مع
مرتبة الشرف الأولى ، ثم إستقلت من عملى ككاتبة ، وإنتقلت للعمل كمعلمة فى مدرسة
ثانوى ، وحينما علم إبنى الكبير بذلك وكان عمره حينها ثلاثة عشرة عاماً ، إحتضننى
بقوة وهــو لا يكاد يغالب دموعه قائلاً : أمــى أنا فخــور بك ، أنت أعظم أم فى
العالم ، وإحتضنتهم جميعاً ودخلنا فى وصلة من البكاء استمرت طويلاً ، ولأول مرة فى
حياتى أقبض راتباً ضخماً ، تصدقت على الفور بنصفه كشكر لله على نعمه المتوالية على
، وبما يسر لى من أسباب الرزق .
بعدها تقدمت بأوراقى للحصول على درجة
الماجستير ، ثم الدكتوراة ، ولا أخفيكم سراً فقد وجدت صعوبات متنوعة فى الدكتوراة
، فقد بدأ أولادى يكبروا ويتدرجون فى فصولهم ، فكان الإرهاق يقتلنى أحياناً وأنا
اشتت نفسى بين عملى كمعلمة ، وبين مذاكرتى للدكتوراة ، وأبحاثى ، ومذاكرة أولادى ،
وعمل المنزل ، وكذلك كنت قد أشتريت قطعة أرض كبيرة لأبنى عليها بيتاً مكوناً من
طابقين لكل طابق خمسة غرف وحديقة ومسبح ، وكنت أشرف على التأثيث بنفسى فقد إشتريت
أثاثاً فخماً ورائعاً ، والحمد لله إنتهى كل ذلك بعد فترة قصيرة إستطعت الحصول على
درجة الدكتوراة بتقدير ممتاز وتم تعينى كأستاذه فى الجامعة ، وكان عمرى حينها سبعة
وثلاثون عاماً وما زلت بالجامعة حتى الآن .
وقد إبتسمت لى الحياة بعد عبوس طويل ، فلله
الحمد أصبحت ذو مركز إجتماعى مرموق الآن ، وأعيش فى بيت فخم ، وعندى الخدم
والسائقين ، وأبنائى جميعهم قد تخرج من الجامعة ، فإبنى الأول يعمل الآن طبيباً ،
والثانى مهندساً معمارياً ، والصغرى طبيبة أطفال وقد تزوجوا جميعاً ، واصر إبنى
الأكبر أن يعيش هو وزوجته معى فملؤوا على البيت بالحياة وضحكات الأحفاد .
و أنا الآن فى الخامسة والخمسين من عمرى
مازالت أحتفظ بمسحة من جمالى برغم جميع الظروف التى مررت بها . جاءت هذه القصة على
لسان الدكتورة سلوى العضيدان وهى تقول أنها حدثت مع إحدى معارفها ، وأنا هنا
نقلتها كما هى ، ولكن إضطررت للإختصار فـى بعض الفقرات مع الحفاظ على المعنى العام
كاملاً طوال الرحلة .
أن تترك أثراً ليس معناه ان تسير وفق ما هو مخطط لك ولكن معناه ان تحفر طريقك الخاص وان لا تستسلم مهما كلف الأمر ....
ل
لا تكن عاديا أو محدوداً مهما حدث .
من كتاب الذات المبدعة صــ55